12‏/01‏/2011

فى كـَ،نـفِ القرآن (2) ... أن تبروهم وتقسطوا إليهم

لم أكن أنتوى أن أبدأ السلسلة بهذه الآية ، فقد كنت أؤثر أن أبدأ بآية تحتوى على أصول فى الإسلام أو قواعد حاكمة كبرى ... والمفاضلة بين آي القرآن معتبرة ، يقول تعالى : ( ماننسخ من آية أو نُـنْـسـِها نأتِ بخيرٍ منها أو مثلـِـها ) . وتجد أحدنا يتفاوت شعوره من سورة لسورة وآية لآية حسب مدى مساسها بحياته وأفكاره ومشاعره .

عامة ، ومن باب الطرق على الحديد وهو ساخن ، فقد قررت أن أفرغ مكنوناتى عن الآية 8 فى سورة الممتحنة : (( لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ))  .
فقد هالنى ما رأيت من ردود أفعال غريبة وكثيرة على حادث الاسكندرية المفجع ، وكعادة أمتنا فى عصر التخبط وغياب الوسطية الذى نعانى منه ، فقد جاءت أغلب هذه الردود متخذة جانب التطرف ، ولم يصِب الاعتدال إلا قليلون .

فالبعض يطالب بألا نقول مسلم ومسيحى ، فكلنا مصريون وكفى ! ، أي أنهم ببساطة يريدون تقديم الإسلام كقربان على مذبح الوحدة الوطنية ، أو على الأقل عزله عن دائرة الاهتمام والأضواء وكأنه هو المتهم الأكيد فى ما حدث ... بالتأكيد هؤلاء خلفيتهم الحقيقية عن الإسلام لاتزيد عن خلفيتى عن تاريخ جواتيمالا القديم !

وهناك آخرون يهنئون بعضهم البعض بـ ( غزوة الأسكندرية ) التى هاجمت ( وكر الأوغاد ) والتى اقتصت للأسيرتين المسلمتين كاميليا شحاتة ووفاء قسطنطين ( لا أدرى كيف ) !! .. وكأن الدماء التى سالت ، والأشلاء التى تطايرت هناك فى الأسكندرية لا تعود لأبرياء منذ 14 قرنا وهم فى ذمة الله والمسلمين ، وإنما لصهاينة ه ... وكأن جريرة بعض الأفراد توجب ذبح الملايين من الأبرياء ! ..... لا حول ولا قوة إلا بالله .

نعود إلى الآية الكريمة ... .

بمنتهى الصراحة ، هي من أكثر الآيات التى أفخر بوجودها فى القرآن الكريم ، إنها آية ومعجزة قائمة بذاتها تثبت بشكل قاطع أنه دين الحق والعدل و الإنصاف .

الآية تقول بشكل قاطع ومبسط : أيها المسلم .. سالم من يسالمك وإن كان كافرا بى وبرسولي طالما لم يقف حائلا ضد وصول الحق للناس وطالما لم يؤذك ..... أيها المسلم قم ببره ( وهي كل جامعة لكل معانى الخير ) واعدل معه إذا كنت تريد أن يحبك الله العادل !

قد يتساءل أحد المسلمين باندفاع ... كيف يأمرنى الله بأن أحسن معاملة من لا يؤمن بشرعه ، وأن أعدل مع من ظلم نفسه باتباع غير سبيل الله ؟؟ ... لابد من إساءة معاملته حتى يثوب إلى رشده ويعرف أن عزته فى الإسلام ، فيترك الكفر ويهرع إلى ساحة الإيمان !


بالطبع لا يخفى ما فى هذا الكلام من إسفاف وضيق أفق و قصور فهم ، وللأسف هو لسان حال البعض - ولن أقول الكثير - من المسلمين .


ألا يدرى هؤلاء أنهم أتباع نبي وصفه رب العالمين أنه ( رحمة للعالمين ) ؟ .. ألا يدرون أن من أهم دعائم هذا الدين ، الدعوة إلى الله بالتى هي أحسن ؟؟؟ ..... هذا دين شعاره ( هاتوا برهانكم ) و ( جادلهم بالتى هي أحسن ) وليس هاتوا سلاحكم ، والكسبان يبقى دينه الحق ! ... والحفاظ على أرواح مليار غير مسلم من أجل احتمال - ولو ضئيل - أن يهتدى أحدهم للإسلام ، صفقة رابحة .


بالطبع هناك متكبرين وأوغاد و زُرّاع للكراهية يتم التعامل معهم بطرق يفهمونها وتكفى العالمين من شرهم .. ( فاضربوا فوق الأعناقِ واضربوا منهم كل بنان ) .


والتعصب الأحمق للإسلام - الشبيه بالتعصب الأهوج للأندية الكروية -  دون احترام لآداب الاختلاف التى أرساها الله فيه ، لايجوز إطلاقا . هذا دين الدعوة إلى الله على بصيرة ... الإيمان الذى يجئ تحت الترهيب هباءٌ منثور ... وهل الإكراه فى الدين - والمعلوم من الدين بالضرورة حرمانيته - يعنى فقط أن أمسك السيف وأحضر المخالف فى الدين وأضعه على رقبته وأقول له : ( هتخش دينى ولا أطيرها ؟؟) !
هذا الشكل من الإكراه مضى زمنه ، وأغلب ضحاياه فى التاريخ كانوا من المسلمين الذى أكرهوا على تركِ الإسلام ، وراجع تاريخ الأندلس ومأساة الأندلسيين بعد سقوطها كمثال شجيٍّ و جليٍّ على ذلك . 


إن التضييق علي غير المسلم وكبت حريته وظلمه فى معاشه و إفقاده الانتماء إلى بلده ودفعه دفعا للهجرة منها ، هو الظلم والإكراه بعينه ، وسيقف من يشارك فيه بدور قل أو كثر موقفا صعبا أمام الله سبحانه وتعالى ، ويكون خصمه أمام محكمة العدل الإلهية العظمي هو النبي صلى الله عليه وسلم ! .... أليس هو - عليه الصلاة والسلام - القائل أن من يؤذى ذميا ، فهو خصيمه وحجيجه يوم القيامة !


هذا هو الإبداع فى التسامح يا سادة ! .. أن أتمسك بدينى أشد التمسك وأعض عليه بالنواجذ وفى نفس الوقت أكون برا وسلاما على غير المسلم المسالم ، وأدعوه إلى سبيل الله بما يرضى الله .. وحتى إن كرهته فى دخيلة نفسى ، فلا بد أن أٌقسر نفسى قسرا على ألا تترجم هذه الكراهية إلى ظلم أو إجحاف .. ( ولا يجرمنَّـكُم شنئان قومٍ على ألا تعدلوا ) . فأنا لا أعدل معهم ( عشان سواد عيونهم ) ، وإنما - كدافع رئيس - من أجل رضا الله سبحانه وتعالى واتقاء لغضبه جل فى علاه .


لذا فلا أعترف بتسامح من يتخذون الدين لهوا ولعبا ، إنهم لا يعطون للدين اعتبارا ، فلم يكرهون المخالفين لهم فى الدين الذى ورثوه فى شهادة الميلاد ؟؟؟ .... أعرف أناسا لا يركعون لله ركعة فى فريضة ، ولا يحملون أنفسهم على فريضة أو فضيلة فى هذا الدين ، ومع ذلك يزعمون أنهم مسلمون متسامحون ويكرهون التعصب ؟؟!! ..... انظر لحال هؤلاء فى الأمور التى تعنيهم أكثر ( المال - السلطة - الشهرة - المصالح ... ) وانظر إلى تعاملهم مع المخالفين والمنافسين لهم فيها ، وستعلم فعلا من المتسامح الحقيقي .
وهذا الحال ينطبق على الغرب ، الذى لم يعد يعطى للدين كبير فيمة فى الحياة - وإن كان هذا بدأ بالتغير قليلا فى السنوات الماضية - ، فلا عجب أن يكون فى بلاده نوع من التسامح الدينى وعدم الإكراه فى الدين .... ولكن تأمـَّل حاله الغرب عندما يتعلق الامر بمصالح اقتصادية أو سياسية ...الخ ، فلتحترق بلدان ولتتفتت أمم وليغرق نصف العالم فى الحروب والمجاعات ، لايهم ! ، المهم المصالح .. والسياسة نجاسة ! .


الخلاصة ، لا يوجد تسامح دينى أروع من أن تتعبد إلى الله بحسن معاملة غير المسلم الذى لا يعبده حق عبادته ، طالما أنه مسالم ولا يحجب نور الحق عن الوصول إلى دياجير الكون ! .... هذا إسلامي ، فخرى واعتزازي . وفى مناخ الحب والتعايش والحوار ، ينتشر الإسلام انتشار العطر فى النسيم ( ولن أقول النار فى الهشيم مراعاة للجو النفسي ) .


لمن لا يعلم .. فحسن معاملة غير المسلمين المسالمين من المعلوم من الدين بالضرورة ، لوضوح أدلتخ فى القرآن والسنة النبوية ، وبالتالى فحاجده كافر ، والمؤمن به ولا يطبقه يرتكب كبيرة من الكبائر ! .


وكما تكلمنا عن الشق الخاص بنا كمسلمين فى هذا الموضوع ، فعلينا أن نتوجه بالكلام إلى غير المسلمين فى العالم العربي والإسلامي .. لقد تعايشنا لقرون ، وعلمنا البشرية فى الأندلس ومصر و آسيا الوسطى والهند ....وكل أقطار العالم الإسلامي ، أن هناك شكلا للتعايش بين المختلفين فى الدين غير السلب والنهب وجز الرؤوس والحملات الصليبية ومحاكم التفتيش ...الخ .


فلنواصل هذا الإبداع ، ولنضرب على يد دعاة الفتنة ، وأحذركم - تحذير الأخ الحريص - من كارثة الكوارث التى بإمكانها نسف كل تسامح و أوثق تعايش .... الاستقواء بالخارج والانجرار وراء أوهامه الخادعة بالسيطرة والانقضاض على المسلمين استغلالا لكبوتهم الحالية ورخاوة أنظمتنا الحاكمة وهلعها من كل ضغط يأتى من الخارج .




والحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة .





ليست هناك تعليقات: