27‏/05‏/2011

الدستور أولا ..... وهل قلنا آخرا ؟؟

الدستور ببساطة هو مجموعة من المبادئ يتوافق عليها الناس فى بلد من أجل أن تكون اللب الرئيسي لنظامه القانوني وذلك لضمان حياة فضلي فى هذا البلد وتوافق كافة أفراده على مبادئ يشتركون فيها جميعا ويضغطون دائما لتحقيقها مهما اختلفت توجهاتهم ونظراتهم فيما سواها ، مما يضمن تماسك المجتمعات و يفتح الباب لاختلاف مثمر بين الناس جميعا يصب فى صالح البلد ، كما يحدد سلطات الهيئات الحكومة لضمان عدم تغوُّلها على حساب المحكومين وقهرهم بها ، كما يحدد حقوق المحكومين العامة وواجباتهم الأساسية .


وبالطبع لم ينبثق اختراع عظيم مثل الدساتير وكتابتها وصياغتها بالشكل الحديث إلا من رحم معاناة بشرية طويلة مع الحروب الأهلية والطغيان والاستبداد سالت فيها الدماء أنهارا ، وديست المبادئ السامية تحت سنابك العسكر ، وتوجر بالدين وفسر على أهواء أعداد لا تحصى من أسافل الحكام وحاشياتهم من كهنة السوء و عبيد المال والجاه .


لكن نظرا لأن الطغيان لن ينتهي أبدا فهو متأصل فى الطبيعة البشرية ، فقد التف المستبدون كثيرا على الدساتير وفسروها على هواهم ، و دائما ما استعانوا بجيوش من المرتزقة وعبيد السلطان ممن يسمون : ( ترزية الدساتير والقوانين ) ، والذين يفصلون الدستور على مقاس الرئيس وابن الرئيس و مرات الرئيس واستبداد الرئيس و عصابة الرئيس و اللى يتشدد للرئيس ! .


عندك مثلا الدساتير فى البلاد العربية ، فتجد أكثرها من كثرة القص واللزق و التحزيق والتلزيق و التذويق والمط والمزق .. الخ قد أصبحت أشبه بخرقة بالية تغطي بعد جسد الأنظمة المستبدة العاري مع تعمد واضح لترك شبابيك مفتوحة المصراعين تماما على أماكن العورات ! .


ولذا ، فكان بديهيا أن يكون من المطالب الجوهرية لثورة 25 يناير المجيدة هو التخلص من الدستور القائم " اللى اشتكي " من كثرة ما لعب فيه مفيد شهاب وشركاه ، ومن الاستفتاءات المزورة والمخادعة التى تكذب على إرادة الأمة لتمرير رغبات النظام ، ومن الصلاحيات الفرعونية شبه الإلهية للرئيس  .. بل حتى بعض الجوانب النيرة فى الدستور كانت دائما محل النسيان و" التنفيض " من قبل النظام ! .


والحمد لله بعد يومين من تنحى مبارك ، أسقط المجلس العسكري - الذى أسلمته الثورة مفاتيح قيادة عربة مصر " المضحضحة " فى فترة النقاهة الانتقالية بعد جراحة الثورة الخطيرة - نادى ترزية القوانين و المجرمين تحت الحصانة والمسمي زورا وبهتانا بمجلس الشعب والشوري ، وكذلك عطل العمل بالدستور القائم تمهيدا لإنشاء واحد جديد " على نضافة " على مقاس مصر الثورة وآمالها العريضة و طموحات شعبها العظيم .


ثم قام المجلس العسكري بتشكيل لجنة دستورية لتعديل بعض المواد فى الدستور المعطل لتفتح المجال لإجراء انتخابات نزيهة وشفافة ، ومن أجل وضع تصور لكيفية إنشاء الدستور الجديد البديل عن القديم المعطل ـ وبالطبع سارعت بعض الأصوات النشاز للتشكيك فى اللجنة لأن رئيسها محسوب على الإسلاميين و لتواجد عضو من جماعة الإخوان المسلمين هو المحامي والقانوني الشهير الأستاذ صبحي صالح فيها ، ولكن دعونا من هذه النقطة فلها حديث آخر -  ..... المهم أتمـَّت اللجنة عملها وعدلت بضعة مواد ، وقامت بإضافة مادة هي 189 مكرر و مكرر 1 ، هدفها وضع برنامج عملي واقعي لوضع هذا الدستور الجديد يتضمن إجراء انتخابات برلمانية خلال شهور ، ثم يقوم البرلمان المنتخب انتخابا حرا مباشرا نزيها من الشعب باختيار لجنة من 100 فرد لوضع الدستور الجديد ، ثم يستفتى الشعب عليه لضمان أن يكون معبرا تماما عن رغبة الشعب المصري .


 حدثت حالة من الجدل حول هذه التعديلات خاصة فى الأسبوع السابق لاستفتاء 19 مارس 2011 عليها ، ظهر فيها تباين الناس بين مؤيد ومعارض ، لكن تبين أكثر مدى رفض الشارع إجمالا للدستور القديم ، فأعلن الجيش أنه بعد الاستفتاء سيصدر إعلانا دستوريا جديدا يسقط السدتور القديم تماما ويتضمن المواد التى عدلتها اللجنة إذا تم الموافقة عليها ، وهذا ما تم َّ فعلا وصوت 77% بنعم ، وأصدر الجيش الإعلان الدستوري متضمنا المواد المعدلة ، مع إيضاح أكثر لصيغها خاصة المادة التى تتضمن ترتيبات إعداد الدستور الجديد لأن البعض شكك فى مدي إلزاميتها بوجوب عمل الدستور الجديد .


إلى هنا وطبقا لأبسط قواعد الديموقراطية ولما احتواه الإعلان الدستوري بفعل نتائج الاستفتاء ، ولما ألزم الجيش به نفسه من سرعة تسليم السلطة إلى سلطة مدنية منتخبة فى مدة 6 شهور أو لحين إتمام الانتخابات البرلمانية والرئاسية ، فمعالم المرحلة الانتقالية أصبحت أكثر اتضاحا بإجراء انتخابات برلمانية فى سبتمبر 2011 ( تم التأخير من يونيو ليتسنى للأحزاب الجديدة الاستعداد ومن أجل ترتيبات أخري كمزيد من استعادة الأمن واستقرار الاقتصاد ) ، ثم بعدها بأشهر انتخابات رئاسية ، لكن البرلمان بمجرد تكوينه وبجانب قيامه باختصاصاته الأساسية فى التشريع والرقابة ، فإنه يشكل لجنة المائة بحد زمنى أقصاه 6 أشهر ، لتقوم بوضع الدستور الجديد فى مدة أقصاها 6 أشهر ، وتطلب الاستفتاء عليه خلال 15 يوم على الأكثر بعد الانتهاء ... وبذلك  يكتمل تسليم السلطة ، ويعود الجيش للتفرغ لمهامه الأصلية ، وتكون مصر الثورة يإذن الله قد امتلكت فى أقل من عامين ( على الأكثر ) برلمانا منتخبا و رئيسا منتخبا و دستورا جديدا يلائمها ، وترسخ التحول الديموقراطي فى مصر ، وتبدأ مصر مرحلة البناء الحقيقي والنهضة الفعلية بعد استقرار الأوضاع السياسية .


لكن ظهرت وبضجة عالية ، أصوات كثيرة تطالب بتأجيل الانتخابات البرلمانية بحجج كثيرة جدا ( الأحزاب الجديدة غير مستعدة - الانفلات الأمنى .. الناس ماشية تموت بعضها فى الشارع - الحزب الوطني " المنحل واللى قيادته مشرفة فى طرة " بالفلوس والبلطجية هياخد مقاعد كتيرة أوى - الإخوان قادمووووووووووون !!!! .. ) ، وتطالب بوضع الدستور أولا قبل البرلمان رغم أنف نتيجة الاستفتاء وما أقره الإعلان الدستوري وفقا لها من برنامج للفترة الانتقالية ذكرته آنفا .

ما يحرق دمي أنهم يدًّعون حرصهم على وضع دستور يناسب مصر الثورة ويحفظ مكتسباتها .. وهل أنكرنا هذا ؟؟ ، بل إنه مطلب للجميع ، لكن الخلاف معهم فى تمسكنا بالبرنامج الذى وافق عليه الشعب فى الاستفتاء وأقره المجلس العسكري فى الإعلان الدستوري والذى نراه الأكثر واقعية والأسلم لمصر أيضا ، ولهذا الموقف أعدد 10 أسباب :

1- وهذا الأهم ... أنه اختيار وافق عليه 14 مليونا فى أول استفتاء حر ونزيه فى تاريخ مصر ، فإذا كنا نريد ترسيخ البناء الديموقراطي فى مصر الثورة ، فهل يصح أن نبدأ العهد الجديد بمحاولة إسقاط خيار الناس فى الاستفتاء من أجل أي رؤية مخالفة مهما كان نبل غاياتها ؟؟؟ ...... لو فتحنا الباب أمام كسر الاختيارات الديموقراطية فلن ينغلق و لن يكتمل لنا التحول الديموقراطي الذى ننشد لاقدر الله .
2- يدعى البعض أن الإعلان الدستوري الذى وضعه المجلس العسكري بعد الاستفتاء ، هو الذى أسقط إرادة الناس فى الاستفتاء وانقلب عليها ! ، فالاستفتاء كان على 8 مواد ، فى حين تضمن الإعلان 68 مادة ! ، فلم لم يتم الاستفتاء على الـ 60 مادة الباقية ؟؟؟؟ .

طبعا هذا الكلام مردود عليه .. المواد الأخرى فى الإعلان سوي مواد الاستفتاء إما مبادئ عامة موجودة فى أغلب دساتير العالم لإقرار الحريات العامة ..الخ ، أو مواد لشرح سلطات المجلس العسكري فى إدارة الفترة الانتقالية ، أو مبادئ عامة خاصة بمصر مثل موضوع المادة الثانية من الدستور وحدود مصر و ... الخ ، وكل هذه المواد تحمل مبادئ عامة تسترشد بها الفترة الانتقالية ، ولا داعى للاستفتاء عليها ، ومن يريد تغيير شئ منها مثل ( نسبة العمال والفلاحين مثلا .. الخ ) ، فيكون هذا عند وضع الدستور الجديد بإذن الله .

3- من يريدون الدستور أولا لم يحددوا آلية واقعية لاختيار اللجنة التى ستضعه ، بحيث تضمن هذه الآلية أن تكون اللجنة معبرة بشكل حقيقي قدر المستطاع عن رؤية الشعب المصري كله وتوجهاته .. بل وصلت الوقاحة - عذرا - ببعضهم أن يطلب من المجلس العسكري تعيين اللجنة بمعرفته ! .... فى حين أنه فى البرنامج الذى نريد ، فإن الشعب المصري سيختار برلمانا فى انتخابات حرة نزيهة وشفافة ، والشعب المصري يعرف الانتخابات البرلمانية جيدا ، ثم يقوم هذا البرلمان المنتخب بانتخاب اللجنة التى تقوم بإعداد الدستور ، وبعد اكتمال مهامها ، فإنها ستدعو الشعب للاستفتاء عليه .. وهذا التسلسل أراه ضامنا بنسبة كبيرة لتعبير الدستور الجديد عن الشعب المصري بإذن الله .

4- البعض يحاول إفزاعنا بالخراب الاقتصادي والانهيار الأمني ، وادعاء أن أوضاع مصر لاتحتمل انتاخبات برلمانية فى سبتمبر ، مع أنه من الواضح للجميع أن الأوضاع الأمنية والاقتصادية قد تحسنت كثيرا عند فترة الثورة وما بعدها مباشرة ، والبورصة عادت للعمل بقوة ، والسياحة تعود تدريجيا ، والمظاهرات والاعتصامات الفئوية المعطلة للإنتاج خفـَّــت حدَّتها .. الخ ... حسبي الله ونعم الوكيل فى الإرهابيين الذين يريدون إرعاب الشعب وقهره على ما يريدون .
5- رائحة الذعر من تفوق الإخوان وحزبهم فى الانتخابات البرلمانية تزكم الأنوف .. وأنا لست على استعداد لقبول تأخير التحول الديموقراطي فى مصر من أجل ذعر البعض من الإسلاميين ، هذا قدمة الأنانية ، وعلي هؤلاء بدل من محاولات الالتفاف على خيارنا ، أن يبذلوا مزيدا من الجهد فى المذاكرة من أجل منافسة الطالب الدحيح بدلا من المطالبة بتأجيل الامتحان .... أو دعوة ربنا إن المدرسة تولع عشان ما نروحش الامتحان ! ..... ( الإخوان أبدوا كامل استعدادهم للتفاهم مع كافة قوي الثورة للدخول بقائمة موحدة للثورة لضمان تمثيل الجميع فى البرلمان..... فى هذه .. عدَّاهم العيب !! ) .

6- نحن الآن فى فترة شك وعدم وضوح كامل الرؤية.. الخ ، ومن يحكمون مصر الآن  فى أغلبهم ليسوا من جموع الثائرين ، وإن وقفوا مع الثورة و حققوا أبرز مطالبها وتعهدوا بإيصالها لبر الأمان ... إذن فالثورة الآن فى يد غير ثورية ... أليس من الأفضل تسليمها لقوى الثورة بانتخابات حرة نزيهة فى أقرب فرصة لضمان تسريع تحقيق مكاسب الثورة ؟؟

7- كل استحقاق ديموقراطي ننتزعه ، يقربنا من مصر التى نريدها بإذن الله ، ويبدد أوهاملا البعض عن رغبة الجيش فى الانفراد بالسلطة وإعادة الحكم العسكري كما حدث بعد انقلاب 1952 ، فالإسراع بالانتخابات البرلمانية الآن مكسب للجميع .

8- يشتكي البعض من عدم رضاهم على القوانين التى يشرعها المجلس العسكري ... فأيهما أقدر على وضع القوانين التى تعبر عن الشعب؟؟ .. المجلس العسكري أم برلمان منتخب بشكل حر ونزيه ؟؟

9- يقولون أن الشعب جاهل ومش عارف مصلحته ، وسيتم الضحك عليه وخداعه باسم الدين و ...و .. الخ ، ولابد من تأخير الانتخابات لحين استعداد الشعب للديموقراطية ؟؟؟؟ ...... اللهم احشر من يقولون هذا مع عمر سليمان ! .
لا سماح باحتقار البعض للشعب المصري ، ولا ينبغى أن يفقده البعض الأهلية السياسية ، فهذا الشعب على ما مر به من محن وما عناه من تجهيل وفقر .. الخ ، شعب ذكي و يستطيع التمييز .
وأي عيوب أو أخطاء سيتم معالجتها بالتدريب الفعلي وبالممارسات الديموقراطية المتعاقبة ... إنما العلم بالتعلم .

نقطة أن الشعب ينخدع تماما بأية شعارات دينية مردود عليها بمثال بسيط ... يوم جمعة الزحف 11 فبراير كان حوالى 15 مليون مصري فى الشارع يطالبون برحيل مبارك ، رغم معارضة المؤسستين الدينيتين الرسميتين فى مصر لذلك ، وتردد كثير من علماء الدين من غيرهما فى دعم الثورة دعما مطلقا ، بل إن بعض العلماء كانوا يقولون أنها فتنة وخروج على الحاكم الشرعي .. الخ ..... فهل هذا شعب يساق بأي كلام فى الدين ؟؟؟؟؟ .


10- من يريدون عمل انتخابات مباشرة لاختيار اللجنة التأسيسية الآن - طبعا هذا يخالف ما وافق عليه الشعب فى الاستفتاء كما وضحت آنفا - يدركون وندرك كمية الصعوبات الإجرائية فى هذا ، إذ كيف لجموع الشعب المصري بما فيها شديدي الثقافة أن تختار مائة اسم من مئات ، أو حتى 50 ؟؟ ... وهل الأمن والاقتصاد " المنهارين " لا يسمحان بحدوث انتخابات برلمانية ، ويسمحان بانتخابات لجنة تأسيسية ؟؟؟؟ .

اللهم وفق مصرنا لما فيه الخير والسلامة .. وأتمم علينا ثورتنا كما يحب ويرضى سبحانه وتعالى .



ليست هناك تعليقات: